Lecture 2

Youssef El Baroudi

أمّ يوسف العالية الغالية

ترمّلت أمي وأنا لم أبلغ الرابعة من عمري. اضطرّت أن تجوب مداشر وقرى المدينة باحثة عن العمل، تتدبر قوت يومها بشرف، وتكد في الشغل، كي تعود إلى بيتنا حاملة في يدها ما يسد رمق ثلاثة أفواه جائعة. لم تكن تستغل وقت عودتها كي ترتاح وتدلك رجلاها المتورمتين. ترتب الفوضى التي تحدثها أختي وهي تحبو باحثة عن رضاعتها أو لعبة خشبية تلهو بها. تطبخ لنا العشاء في طرفة عين وتجلس لتحكي لنا قصصا لشخصيات تائهة في دروب المدائن والغابات، وحكايات الحيوانات والأساطير القديمة، دون أن تكلف خيالها جهدا أو عناء، إلى أن ننام.. أو نرغمها على إعادة تذكرينا بأسماء شخوص حكاياتها المنومة. ولم تفكر يوما في أن تضعنا تحت وصاية دار خيرية أو حضانة كما قد يتبادر إلى ذهن أيّ امرأة في مثل وضعها وسنها، وتتفرغ لزينتها والاعتناء بجمالها.
وفرت والدتي، مدخولها لتدريسنا أنا وأختاي. وفعلا درسنا. أختي الكبرى حصلت على الباكالوريا ودرست سنتان في الجامعة قبل أن تسحبها خيوط الغربة إلى الخارج، فيما حصلت أختي الصغرى على الباكالوريا وهي الآن على وشك تحقيق حلمها بالحصول على الإجازة، فيما انقطعت عن الدراسة لخمس سنوات قبل أن أعود لأتابع دراستي الآن في سلك الدكتوراه.
قبل ثلاثة أعوام، تحديدا في مستشفى السويسي بالرباط، عرفت كيف يمكن للمرء أن يكون صديقا وفيا لأمه. لقد علمتني اللحظات التي عشتها معها وهي على سكة الرحيل الأبدي، أن: الأم هي أعظم حب يمكن أن يحظى به أي إنسان. كما علمتني بعد رحيلها: أن المرء يصير وحيد وكئيب عندما يلتفت حوله ولا يجد امرأة يناديها أمي.
أفكر الآن؛ لو لم تترمل أمي التي أفنت زهر عمرها في تربيتي وتعليمي أنا وأختاي، لكنت يوسفا آخرا غير يوسف الذي يكتب الآن هذا النص بحب ودموع بلغة باطمة الغيواني.
لقد رحلت العالية دون أن تطلب منا، نحن أبناءها، أي تعويض، لم تطلب من الحياة أي شفقة؛ أغمضت عيناها ونامت للأبد.
أختم وأقول مع كثير من الحب: شكرا لك أيتها العالية.
  يوسف البارودي/ 14 يوليوز 2020
كاتب موهوب من المغرب

 

Bouton retour en haut de la page